فصل: مسألة تعلق أحدهما بالآخر وأصبعه مجروحة تدمي يزعم أنه عضها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة العبد يعدى عليه فيخصى فينقص منه أو لا ينقص أولا أو يزيد فيه:

ومن كتاب القبلة:
وقال مالك في العبد يعدى عليه فيخصى فينقص منه أو لا ينقص أولا أو يزيد فيه، قال: إن نقصه ذلك فله ما بين القيمتين كجراحه، وإن لم ينقصه وزاد فيه فإني أرى أن ينظر إلى ما ينقص الخطأ من مثله إذا خصي من أوسط صنفه فيحمله عليه، وإنما يكون ذلك أن ينظر إلى ما نقص الذي زيد فأجعله جزءا من ثمنه، فإن كان عشرا كان له عشر ثمنه ثم على نحو هذا يكون في الأجزاء.
قال محمد بن رشد: أما إذا نقص الخصا من قيمته فلا إشكال ولا اختلاف في أنه يلزم الجاني عليه ما نقص ذلك من قيمته، وأما إذا زاد فيه فقوله إنه ينظر إلى ما نقص الخصا من مثله إلى آخر قوله ففيه إشكال، لقوله إنه ينظر إلى ما نقص الذي زيد فيجعل ذلك جزءا من ثمنه، فإن كان عشرا كان له عشر ثمنه، فقد تأول بعض الناس أن معنى ذلك أنه إن كان زاد الخصا في ثمنه الثلث كان على الجاني ثلث قيمته، وإن كان زاد فيه الربع أو النصف كان عليه ربع قيمته أو نصفها، وإن زاد فيه الخصا مثل ثمنه أو أكثر كان عليه غرم جميع قيمته وهو بعيد في المعنى فلا ينبغي أن يحمل الكلام على ذلك، وإن ساعده اللفظ، وإنما معنى قوله ينظر إلى ما نقص الذي زاد أن ينظر إلى ما نقص منه الخصا الذي زاد في قيمته كمن كان ينقص منه لو لم يرغب فيه من أجل خصائه إذ لا شك في أن الخصا ينقص بعض منافعه فتنقص قيمته من أجل ذلك ويرغب فيه الملوك أيضا فتزيد قيمته لذلك، فقد نفى الزيادة بالنقصان فتكون قيمته مخصيا وغير مخص سواء وقد يكون ما يزيد فيه الرغبة لخصائه أكثر مما ينقص منه الخصا، فتكون قيمته مخصيا أكثر، وقد يكون ما تزيد فيه الرغبة لخصائه أقل مما ينقص منه الخصا، فيكون قيمته مخصيا أقل من قيمته غير مخص فأراد في الرواية أنه ينظر إلى ما نقص منه الخصا لو لم يرغب فيه من أجل خصائه وقد قال سحنون: إنه إن أراد الخصا فإنه ينظر إلى عبد دني، وعبد ممن ينقص مثله الخصا فيقال ما ينقصه المخصي؟ فيقال خمسه فيغرم الجاني خمس قيمة العبد الذي جنى عليه، وفي قوله نظر؛ لأن الخصا ينقص من قيمة العبد النبيل الرائع أكثر مما ينقص من قيمة الوخش، فقول مالك على ما تأولناه عليه هو أصح في النظر، وقد قال ابن عبدوس: إذا لم ينقصه الخصا فلا غرم على الجاني، والذي أقول به في هذا أنه إذا لم ينقصه الخصا فيكون على الجاني جميع قيمته لأن الخصا يقطع النسل وفي ذلك في الحر الدية كاملة، فيكون فيه في العبد قيمته كاملة قياسا على موضحته ومنقلته ومأمومته وبالله التوفيق.

.مسألة إذا شهد لرجل شاهد واحد على جرح خطأ:

وقال ابن القاسم: إذا شهد لرجل شاهد واحد على جرح خطأ حلف مع شاهده واستحق دية جرحه إن كان مما فيه دية، وإن نكل عن اليمين فردها على الجارح حلف وإلا أدى إليه دية الجرح بمنزلة المال الدين، قال عيسى وسحنون: وذلك إذا كان جرحه أدنى من الثلث، فإن كان جرحه الثلث فأكثر فلا شيء عليه ولا يمين عليه، قال سحنون: وإنما أبطل ذلك عنه لأن الدية قد صارت على غيره.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يحلف مع شاهده على جرح الخطأ ويستحق ديته صحيح لا اختلاف فيه؛ لأنه مال من الأموال، وقد قال في الشهادات من المدونة وكل جرح لا قصاص فيه فإنما هو مال، ولذلك جازت فيه اليمين مع الشاهد.
وقوله إن نكل عن اليمين فردها على الجارح حلف وإلا أدى إليه دية الجرح لا اختلاف فيه إذا كان الجرح له دية وهو أقل من الثلث، وأما إذا كان الثلث فما عدا فقول سحنون إنه لا شيء عليه ولا يمين إذا نكل المجروح عن اليمين مع شاهده؛ لأن الدية قد صارت عليه هو على قياس قول ابن الماجشون في أن الأولياء إذا نكلوا عن القسامة في دم الخطأ لم ترجع الأيمان على العاقلة، والذي يأتي على مذهب ابن القاسم إذا نكل المجروح عن اليمين مع شاهده أن ترجع اليمين على الجارح وجميع عاقلته، فمن حلف منهم برئ مما يقع عليه من دية الجروح، ومن نكل غرم ما يجب عليه منها، وعلى قول مالك في رواية ابن وهب أن يحلف الجارح وحده، فإن حلف سقطت دية الجرح عنه وعن العاقلة، وإن نكل عن اليمين لزمه ما يلزم واحدا من العاقلة، وقد مضى في أول سماع عيسى من كتاب الديات تحصيل القول في نكول الولاة عن القسامة في دم الخطأ وهو أصل لهذه المسألة وبالله التوفيق.

.مسألة إذا جرحت أم الولد خطأ فتوفي سيدها:

قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: إذا جرحت أم الولد خطأ فتوفي سيدها أخذ عقلها وكانت مالا للورثة، قال ابن القاسم: ثم قال بعد ذلك أراه لها؛ لأن أم الولد ليست كغيرها لها حرمة وليست بمنزلة العبد، ولذلك إذا لم يقبضه سيدها حتى مات قال ابن القاسم: وقد رأيت مالكا كأنه يعجبه هذا القول ويستحسنه، قال ابن القاسم: وأنا استحسن قول مالك الذي رجع إليه.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في كتاب ابن المواز إن قوله الأول هو القياس، ونحن نستحسن ما رجع إليه، وكذلك لو أعتقها قبل أن تؤخذ دية الجناية كانت لها، وقال أشهب: بل ذلك للسيد، وقال سحنون في المبسوطة بالقول الأول أقول وهو الفقه فيها، وكذلك يختلف على هذا أيضا إذا جنت هي فتوفي سيدها قبل أن يحكم عليه بالجناية هل تؤخذ من ماله أو تكون عليها، فقال ابن القاسم في المدونة ورواه عن مالك إن ذلك يؤخذ من ماله ولا يكون عليها، وقال غيره فيها إذا لم يقم على السيد بالجناية حتى مات فهي عليها، فاختلاف قول مالك في المسألة الأولى يدخل في هذه، إذ لا فرق بينهما في القياس، ولا اختلاف في أنها إذا ماتت هي قبل أن يحكم على سيدها بما جنت فلا شيء عليه من جنايتها.

.مسألة جراح الخطأ التي دون الثلث:

ومن كتاب أوله أخذ يشرب خمرا:
قال ابن القاسم: كل ما كان من جراح الخطأ التي دون الثلث التي يستأنى بصاحبها خوفا أن يأتي فيها أكثر من الثلث مثل اليد يقطع منها الأصبع وما أشبه ذلك فما كان مما يصاب به مما هو دون الثلث أخذ عقله فوضع فإن برئ دفع إليه، وإن نزي فيها حتى يكون ذلك أكثر من الثلث رد إليه وحملته العاقلة وكان الجارح كرجل منهم يعقل معهم كما يعقلون، وما كان مما تحمله العاقلة استؤني به ولم يؤخذ له عقل حتى ينظر إلى ما يصير إليه أمره، ولأن العاقلة أمر مأمون ولأن الرجل في خاصته يخاف أن يذهب ماله وتلحقه الديون وبرئ فيكون أقل من الثلث فلا تحمل العاقلة شيئا ولا يوجد له مال، وإنما هو بمنزلة سن الصبي التي تنزع قبل أن يثغر، قال سحنون إذا كان الجرح مما تحمله العاقلة فإنه يفرض له ولا يستأنى به في الجرح ويكون منجما على العاقلة فإن آل الجرح إلى غير ما هو عليه زيد ذلك على العاقلة.
قال محمد بن رشد: قوله في جرح الخطأ إذا كان دون الثلث إن عقله يوضع حتى ينظر إلى ما يصير إليه، بخلاف إذا كان أكثر من الثلث لأن العاقلة أمر مأمون صحيح على معنى ما في المدونة؛ لأنه قال فيها في سن الصغير: إنه يوضع على يدي عدل حتى ينظر إلى ما يصير إليه، وأما قول سحنون إن الجرح إذا كان مما تحمله العاقلة إنه يفرض ولا يستأنى به برء الجراح ويكون منجما على العاقلة فإن آل الجرح إلى غير ما هو عليه زيد ذلك على العاقلة فهو خلاف نص ما في المدونة أن دية المأمومة لا تفرض على العاقلة حتى تعرف ما تصير إليه المأمومة لأنها ربما آلت إلى النفس فلم تجب الدية على العاقلة إلا بقسامة ولما سأله فيها عن المعنى في تأخير فرض المأمومة على العاقلة وهي لابد أن تفرض عليها عاش أو مات قال هذا الذي سمعنا، وإنما هو الاتباع ومع الاتباع قله وجوه صحاح في النظر، منها أن الجرح ربما آل إلى النفس فوجب فرض الدية على العاقلة في ثلاث سنين فإن فرض على العاقلة دية الجرح منجما كما قال قد يحل قبل موته فيؤول ذلك إلى قبض دية النفس من العاقلة قبل وجوبها؛ لأن الحكم فيها أن تفرض بعد الموت بالقسامة في ثلاث سنين فهي تجب لورثته فلا يصح أن تفرض له دية الجرح لا يدري أهل يعيش فتجب له؟ أو يموت فتجب لورثته، وهذه علة بينة صحيحة، وقد أجمع أهل العلم أنه لا يقتص من الجرح إلا بعد البرء فوجب على قياس ذلك ألا يعقل الجرح إلا بعد البرء، وقول سحنون في هذه المسألة بعيد وبالله التوفيق.

.مسألة من قتل كلبا معلما أو كلب ماشية أو حرث:

ومن كتاب الرطب باليابس:
قال ابن القاسم: قال مالك: من قتل كلبا معلما أو كلب ماشية أو حرث غرم ثمنه، قيل لسحنون أيأكل ثمنه؟ قال: نعم، ويحج به إن شاء، قال أصبغ: لا يجوز بيع الكلب وإن احتاج صاحبه إلى ثمنه؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد نهى عن ذلك والناس كانوا يومئذ أحوج إلى إجازته من اليوم فلم يؤذن لهم.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم عن مالك في هذه الرواية إن من قتل كلبا معلما أو كلب ماشية أو حرث يغرم ثمنه أي قيمته هو قول ابن القاسم وروايته عن مالك من قتله كان عليه قيمتها ولا يحل بيعها مثل قول أصبغ خلاف قول سحنون إن بيعها وأكل ثمنها جائز وأجاز ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع شراءها من أجل الحاجة إليها ولم يعجبه بيعها، وذلك نحو قول أشهب في المدونة في الزبل إن المشتري أعذر في شرائه من البائع؛ لأن الحاجة تدعوه إلى شراء الكلب للصيد وشبهه مما جوز له اتخاذه له، وكذلك الزبل إذا لم يجد من يعطيه ذلك دون ثمن ولا حاجة بأحد إلى بيع ذلك؛ لأنه إذا لم يحتج إليه تركه لمن يحتاج إليه، فحمل مالك نهي النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ على عمومه في جميع الكلاب الضارية وغير الضارية التي لم يؤذن في اتخاذها، وجعل سحنون نهيه عليه السلام مخصصا في الكلاب المنهي عن اتخاذها، وهو قول ابن نافع وابن كنانة وأكثر أهل العلم، بدليل قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ «من اقتنى كلبا لا يغني عنه ضرعا ولا زرعا نقص من عمله كل يوم قيراط» والاقتناء يكون بالاشتراء وقد مضى في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع زيادات في هذه المسألة وبالله التوفيق.

.مسألة الذي يقتص منه هل ترى عليه مع ذلك عقوبة:

ومن كتاب سلعة سماها:
وسئل مالك عن الذي يقتص منه هل ترى عليه مع ذلك عقوبة قال نعم أرى أن يعاقب.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه لا عقوبة عليه مع القصاص لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] فلم يذكر معه زيادة عليه وقوله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وهو الأظهر، ووجه قول مالك هذا في إيجاب الأدب عليه مع القصاص هو الزجر والردع ليتناهى الناس عن الجناية، إذ منها ما لا يجب فيه القصاص، والأول أظهر؛ لأن في حسبه إن برئ الجرح فيقتص منه، إذ لا يقتص منه إلا بعد البرء وقد لا يبرأ إلا في المدة الطويلة ما فيه زجر له ولمن سواه وردع، وأما الجرح الذي لا قصاص فيه مثل المنقلة والمأمومة فيعاقب مع الغرم على ما قاله في رسم مساجد القبائل من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود، ولا اختلاف في ذلك.

.مسألة الرجل يدفع المرأة فتسقط عذرتها ماذا ترى عليه:

وقال ابن القاسم في الرجل يدفع المرأة فتسقط عذرتها ماذا ترى عليه؟ قال: أرى عليه قدر ما شانها به، قلت له: أفرأيت إن صنع بها ذلك بأصبعه؟ فقال: ذلك سواء ليس عليه إلا قدر ما شانها به، وسواء فعل ذلك بها غلام أو رجل أو امرأة ليس لها في ذلك إلا قدر ما شانها به.
قال محمد بن رشد: يريد مع الأدب في ذلك كله، والأدب في الذي فعل ذلك بها بأصبعه أكثر من الذي فعله بالدفعة، ومعنى ما شانها به أي ما نقصها من صداقها بذلك عند الأزواج، ولا اختلاف في هذا، وإنما يختلف إذا فعل الزوج بامرأته ذلك بأصبعه، فقيل إنه يجب عليه بذلك الصداق، وقيل لا يجب به عليه الصداق وإنما يجب عليه ما شانها عند غيره من الأزواج إن طلقها ولم يمسكها على ما مضى من اختلاف قول ابن القاسم في ذلك بين رواية سحنون وأصبغ عنه من كتاب النكاح، وأما إن فعل ذلك الزوج بزوجته بالدفعة فلا يجب عليه بذلك الصداق، وإنما يجب عليه به ما شانها عند غيره إن فارقها ولم يمسكها وبالله التوفيق.
من سماع أشهب وابن نافع من كتاب القراض قال أشهب وابن نافع، قيل لمالك أليس النصراني بمنزلة العبد يجرح الحر المسلم فلا يكون بينهما قود؟ فقال: إن العبد يؤخذ في ذلك أحيانا عبدا وإن النصراني لا يؤخذ في ذلك عبدا، ففي هذا تسليط للنصراني على المسلمين أن يعمدوا النصراني إلى المسلم فيفقأ عينه ثم يعطيه دراهم يعينه فيها أهل دينه ويحوطونه في ذلك، فأرى أن يجتهد في مثل هذا السلطان الرأي، وقد كان ربيعة وغيره يقولون في مثل هذا النصراني يزني بالمسلمة وما أشبه هذا.
هذا نقض لعهدهم، فقيل لمالك يا أبا عبد الله: أفترى أن يقاد منه؟ فقال: لا أدري الآن، وما هو بمنزلة العبد يؤخذ في ذلك أحيانا رقيقا، والنصراني لا يؤخذ في ذلك رقيقا، وقد يحتمي له أهل دينه فيفقأ عين مسلم فيعطيه دراهم وهو أيسرهما عليه، قال سحنون، قال ابن نافع: المسلم بالخيار إن شاء استقاد وإن شاء أخذ العقل.
قال محمد بن رشد: من شروط صحة القصاص في الجراح استواء الجارح والمجروح في المرتبة بالإسلام أو الكفر وبالحرية أو الرق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] يوجب ألا يقتص في الجراح من العبد للحر ولا من الحر للعبد وألا يقتص فيها من النصراني للمسلم ولا من المسلم للنصراني إلا أن مالكا وقف إذا جرح النصراني المسلم فأراد المسلم أن يقتص منه للعلة التي ذكرها وصرف ذلك إلى اجتهاد الإمام إن رأى يمكنه من القصاص منه أمكنه من ذلك، أو يحكم له بدية جرحه فعل، وصرف مالك الحكم في ذلك إلى اجتهاد الإمام يدل من مذهبه على القول بتصويب المجتهدين، وقال ابن نافع: إن من حق المسلم المجروح أن يقتص من جارحه النصراني إن شاء، ومثله لابن عبد الحكم في المختصر، وقد قال له الدية ولا قود بينهما، فالاختلاف إنما هو إذا أراد المسلم أن يقتص، هل له ذلك أم لا، فمن جعل ارتفاع القصاص بينهما في الجراح عبادة لا لعلة اتباعا لما يدل عليه قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولم يوجب للمسلم أن يقتص من النصراني كما لا يوجب للنصراني أن يقتص من المسلم، ومن جعل ارتفاع القصاص بينهما لعلة الحرمة رأى ذلك حقا للمسلم في ألا يقتص منه النصراني لحرمته وفي أن يقتص هو منه إن شاء، إذ لا حرمة له عليه بل له هو الحرمة عليه بإسلامه قياسا على القصاص منه في القتل، وهو قول ابن نافع، ويأتي على مذهبه أن للحر أن يقتص من العبد في الجراح كما يقتص له منه في القتل، وسيأتي في سماع سحنون وعبد الملك من كتاب القذف القول فيما ينتقض به عهد المعاهد مما لا ينتقض به إن شاء الله وبالله التوفيق.

.مسألة المجنون يكسر أمتعة الناس أعليه غرم:

قال سحنون أخبرني أشهب وابن نافع قال: سئل مالك عن المجنون المغلوب على عقله يخرج إلى السوق فيكسر أمتعة الناس ويفسد، أترى عليه لذلك غرما في ماله؟ قال: نعم، فقلت له: أفتراه شبيها بجراحه؟ فيكون ذلك خطأ يغرم لمن أصاب بذلك الجرح؟ قال: نعم أراه شبيها به، قيل له وتراه إذا أفاق يتوضأ؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: لابن القاسم في رسم مرض من سماعه من كتاب طلاق السنة مثل قول مالك هذا، وله في رسم العشور من سماع عيسى بعد هذا من هذا الكتاب خلافه أن ما أصابه المجنون المطبق والصبي الذي لا يعقل ابن سنة ونصف ونحوها من الأموال أنه هدر بخلاف الدماء، وفي كتاب ابن المواز، قول ثالث في المسألة أن ما أصابه في الدماء والأموال هدر كالبهيمة التي جرحها جبار، ولكل قول من الأقوال الثلاثة وجه، وقد مضى بيانه في رسم مرض من سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة، ولا اختلاف في أن عليه الوضوء إذا أفاق، وإنما الاختلاف هل عليه الغسل؟ فقال في المدونة إنه لا غسل عليه، وقال ابن حبيب إذا أجنب في جنونه فلابد من أن يغتسل، وعلى هذا يختلف فيمن لسعته عقرب أو ضرب بسيف فأمنى هل عليه غسل أم لا؟ وبالله التوفيق.

.مسألة يستوفي المجروح من مال المدبر:

وسألت مالكا عن المدبر يجرح رجلا جرحا فيه عقل فيسلمه سيده إلى المجروح فيختدمه بجراحه ثم يموت المدبر ويترك مالا ولم يستوف المجروح دية جرحه كلها من يرث مال المدبر؟ فقال: يستوفي المجروح من مال المدبر بما بقي من عقل جرحه، ثم يكون ما فضل من مال المدبر لسيده.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه كما يسلم العبد في الجناية بماله فكذلك يكون ما مات المدبر عنه من مال لصاحب الجناية حتى يستوفي جنايته.

.مسألة يتنازعان فيجرح كل واحد منهما صاحبه ثم يطلبا القود:

قال: وسألت مالكا عن الرجلين يتنازعان فيجرح كل واحد منهما صاحبه ثم يأتيان يطلب كل واحد منهما من صاحبه القود بجراحه كلها أو يطلب ذلك أحدهما أن يقاد منه أو يقاد له، فقال لي: كيف قلت؟ فقلت: يتنازعان فيجرح هذا هذا موضحة، وهذا هذا موضحة، أو يجرح كل واحد منهما صاحبه في جسده فيقولان أو يقول أحدهما أقيدوا مني وأقيدوا منه، فقال لي: يفقأ هذا عين هذا وهذا عين هذا ثم يأتي يطلب فيقول: افقئوا عين الآخر أو عين صاحبي الآخر أفليس ذلك له؟ فقيل لمالك أفيكون في ذلك الدية؟
فقال: لا، ولكن قد أخذ لنفسه قوده بيده، فليس بينهما قود فيما قد أخذه لنفسه.
قال محمد بن رشد: أما إذا أوضح كل واحد منهما صاحبه في الموضع الذي أوضحه فيه من رأسه أو جسده أو فقأ كل واحد منهما عين صاحبه اليمنى أو فقأ كل واحد منهما عين صاحبه اليسرى أو ما أشبه ذلك فلا إشكال في أنه لا قصاص بينهما إذ قد أخذ قوده بيده، وأما إذا أوضح أحدهما صاحبه في غير الموضح الذي أوضحه فيه، مثل أن يوضع أحدهما صاحبه في رأسه فوضحه هو في جسده، فلكل واحد منهما أن يقتص من صاحبه إن طلبا ذلك، ولمن طلبه منهما إن طلب ذلك أحدهما، وكذلك إن فقأ أحدهما عين صاحبه اليمنى فقأ هو عينه اليسرى إذ لا يقتص يمنى بيسرى ولا يسرى بيمنى، ويجري ذلك على الاختلاف في الأعور يفقأ عين الصحيح وفي الصحيح يفقأ عين الأعور، فيكون لكل واحد منهما أن يقتص من عين صاحبه الآخر في قول، ويكون مخيرا بين أن يقتص من عين صاحبه وبين أن يأخذ دية عينه التي بقيت، وذلك خمسمائة دينار في قول، ويكون مخيرا بين أن يقتص من عين صاحبه وبين أن يأخذ دية العين التي يترك، وذلك ألف دينار في قول حسبما يأتي من الاختلاف في ذلك في رسم القطعان من سماع عيسى، وبالله التوفيق.

.مسألة يجرح ملطا عمدا فتصير موضحة أيقاد له من موضحته أو من ملطا:

وسئل مالك عن الرجل يجرح ملطا عمدا فتصير موضحة أيقاد له من موضحته أو من ملطا؟ قال: بل يقاد له من ملطا، فإن صارت موضحة كان ذلك، وإن لم تستوضح عقلت الموضحة؟ فقيل لمالك أيعقل له الموضحة كلها أم ما بين الموضحة والمطا؟
قال: لا أدري، قال سحنون: قال عبد الله بن نافع وأرى له عقل الموضحة كلها لأنه ليس دون الموضحة عقل.
قال محمد بن رشد: يدخل هذه المسألة من الاختلاف الثلاثة الأقوال التي تقدمت في أول سماع ابن القاسم في الذي يجرح رجلا موضحة فتصير منقلة، فقوله إنه يقاد له من ملطا فإن صارت موضحة كان ذلك، وإن لم تستوضح عقلت له الموضحة، هو على القول في الذي يجرح موضحة فتصير منقلة إنه يقاد له من الموضحة ويعقل له ما بين الموضحة والمنقلة إن لم تصر موضحة المقتص منه منقلة.
وقوله: إن له عقل الموضحة كلها بعيد خارج عن القياس إذ لا يصح أن يأخذ جميع عقل الموضحة إذ قد اقتص من بعضها، وإن لم يكن للمطاء دية مسماة عند مالك فيجب أن ينظر إلى قدر جرح الملطا ما هو من جرح الموضحة؟ فإن كان ثلثه أو ربعه حط من عقل الموضحة ثلثه أو ربعه إذ قد أخذه في القصاص، وقد روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان أنهما قضيا في الملطا وهي السمحاق بنصف دية الموضحة، فعلى هذا إذا اقتصر من الملطا ولم تصر موضحة كان له نصف عقل الموضحة، وقد روي عن زيد بن ثابت أنه قال في الدامية بعير، وفي الباضعة بعيران، وفي المتلاحمة ثلاثة أبعرة، وفي السمحاق أربعة أبعرة إذا كانت في الرأس، فعلى هذا يكون له إذا اقتص من الملطا ولم تصر موضحة بعير واحد، إلا أن مالكا لم ير هذا وقال في موطئه: ولم تقض الأئمة في القديم ولا في الحديث عندنا فيما دون الموضحة بعقل، فيحمل ما روي عن عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت في ذلك على وجه الحكومة بالاجتهاد لا على وجه التوفية ويأتي في هذه المسألة على القول الآخر أنه ليس له إلا عقل الموضحة، وعلى القول الثالث أنه مخير بين أن يقتصر من الملطا ويأخذ عقل الموضحة أو بقية عقلها على ما بيناه من أنه هو القياس وبين أن يأخذ عقل الموضحة ولا شيء له في القصاص.

.مسألة مملوك أيتام شج رجلا ثلاث مواضح وملطاوين:

قال: وسئل مالك عن مملوك أيتام شج رجلا ثلاث مواضح وملطاوين فوجب عليه في ذلك خمسون ومائة دينار، فأخذ ولي الأيتام العبد وأعطى المجروح الخمسين والمائة الدينار عقل الجراح، فقال: أخذه لنفسه أو للأيتام؟ فقال: بل لنفسه، قال بئس ولي الأيتام هذا، ولم غرر وليس هذا له ولا نعمة عين، قيل له: أفترده على الأيتام؟ قال: يرفع ذلك إلى السلطان حتى ينظر فيه.
قال محمد بن رشد: قوله فوجب عليه في ذلك خمسون ومائة دينار هو على مذهبه في أنه ليس فيما دون الموضحة عقل، وقد مضى في المسألة التي قبلها ما في ذلك من الاختلاف بين السلف وقوله: إن ذلك ليس للأيتام ولا نعمة عين، صحيح إذ لا يجوز لولي الأيتام أن يشتري شيئا من متاع أيتامه، فإن فعل نظر السلطان في ذلك كما قال، فإن رآه نظرا للأيتام أمضاه، وإن لم يكن نظرا يوم ابتاعه ولم يره نظرا للأيتام رده وإن كان نظرا يوم ابتاعه وبالله التوفيق.

.مسألة عض رجل إصبع رجل فجبذ إصبعه فطرح ثنية العاض:

ومن كتاب الأقضية الثالث:
قال: وقال مالك: إذا عضّ رجل إصبع رجل فجبذ إصبعه فطرح ثنية العاض: إن على المعضوض عقل السن، وهذا من الخطأ، وروى يحيى بن يحيى عن الليث أنه قال: ليس على المعضوض في ثنيتي الذي عضه عقل لأنه كان أظلم وأسوأ.
قال محمد بن رشد: رواية يحيى عن الليث بن سعد لم تثبت في جميع الروايات وهي مطابقة لما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رواية عمران بن الحصين «أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فيه فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فقال: يعض أحدكم أخاه كما يعض العجل لا دية لك» فيحتمل أن يكون الحديث لم يبلغ مالكا ويحتمل أن يكون بلغه فرأى القياس المعارض له مقدما عليه على ما حكى ابن القصار من أن مذهب مالك أنه إذا اجتمع خبر الواحد مع القياس ولم يمكن استعمالهما جميعا قدم القياس، والحجة فيه أن خبر الواحد لما جاز عليه النسخ والغلط والسهو والكذب والتخصيص ولم يجز على القياس من الفساد إلا وجه واحد وهو هل الأصل معلول بهذه العلة أم لا فصار أقوى من خبر الواحد فوجب أن يقدم عليه، وجه القياس في ذلك أن هذه جناية من عاقل حديث بفعله ما يجوز له فعله فوجب أن يكون خطأ ولا يكون هدرا، أصله إذا رمى طائرا فأصاب إنسانا، وأولى ما يقال في هذا عندي أنه حديث لا حجة فيه على مالك، إذ ليس هو لأمره من النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بإسقاط الدية في مثل هذا الفعل فيجب امتثال أمره على من بلغه إياه، وإنما هو حكاية قضية منه في عين يحتمل أن يكون بمعنى، فلا يصح أن يعدى الحكم إلى غير تلك العين إلا أن يكون المعنى موجودا فيها، ويحتمل أن يكون النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ إنما حرم العاض دية ثنيته وإن كانت واجبة له على المعضوض عقوبة له لعضه إياه حين كانت العقوبات على الجنايات في الأموال ثم نسخ ذلك فعادت العقوبات على الجنايات في الأجسام فيعاقب العاض بالأدب على ما يؤدي إليه اجتهاد للحاكم ويكون له دية ثنيته على مذهب مالك وبالله التوفيق.

.مسألة اقتتلا فعض أحدهما لسان الآخر فقطع منه ما منع الكلام شهرين:

ومن كتاب العقول والجبائر:
وسئل عن رجلين اقتتلا فعض أحدهما لسان الآخر فقطع منه ما منع الكلام شهرين ثم تكلم وقد نقص من كلامه، أترى فيه قودا؟ فقال: أحب إلي ألا يقاد منه، ولم أسمع أنه أقيد منه، فلا أرى أن يقاد منه؛ لأنه ليس له قدر يعرف في القصاص أخاف أن تسرع الحديدة فيذهب كلامه ويستحسف فأحب إلي ألا يقاد منه وأن يعقل.
قال محمد بن رشد: قوله: إنه لا يقاد منه إذ ليس له قدر يعرف في القصاص مخافة أن تسرع الحديدة فيذهب كلامه يريد أو يذهب منه أكثر مما ذهب من المجني عليه أو أقل يبين مذهبه في المدونة أنه قال فيها: إنه يقاد منه إن كان يستطاع قود ذلك ولا يخاف منه، فبين هاهنا أن ذلك لا يستطاع عليه، وقال أشهب فيه إنه مخوف فلا يقاد منه وقوله: إنه يعقل يريد بقدر ما ذهب من كلامه؛ لأن الدية إنما هي في الكلام، فإن ذهب كلامه كله وجبت له الدية كلها، وإن بقي بعض جارحة لسانه وإن ذهب من كلامه بعضه كان له من الدية بقدر ما نقص من كلامه بعد أن يجرب صدقه فيما يدعي أنه ذهب من كلامه من كذبه ويحلف على ذلك على ما قاله بعد هذا في هذا الرسم، وإنما يقدر نقصان كلامه بالاجتهاد بعد الاختبار والتجربة، ولا ينظر في هذا إلى الأحرف على ما قاله ابن القاسم بعد هذا في رسم الكبش من سماع يحيى، وقد قيل: إنه يكون له من الدية بقدر ما لم ينطق به من حروف المعجم، وهو بعيد؛ إذ بعض الحروف أخف على اللسان من بعض؛ ولأن فيها أيضا ما لا حظ للسان فيه وبالله التوفيق.

.مسألة تعلق أحدهما بالآخر وأصبعه مجروحة تدمي يزعم أنه عضها:

وعلى رجلين كان بينهما كلام ثم اصطلحا، ثم تعلق أحدهما بالآخر وأصبعه مجروحة تدمي يزعم أنه عضها، فقال: إن لكل شيء سببا فليأت بشيء وإلا فيمين المدعي، وأرى إن كان من أهل التهمة أن يضرب.
قال محمد بن رشد: قوله: وأرى إن كان من أهل التهمة أن يضرب معناه إذا أتى على دعواه بسبب لا يبلغ أن يكون شاهدا عدلا على دعواه مثل أن يشهد له أنه مشهور بمثل ما ادعى عليه به وما أشبه ذلك، وتحصيل القول في هذه المسألة أنه إن لم يأت على دعواه بسبب ولا شيء فقيل إنه يحلف على تكذيب ما ادعى عليه به، وهو قوله في هذه الرواية، وقيل إنه لا يمين عليه وهو الذي يأتي على ما في رسم الشجرة من سماع ابن القاسم من كتاب الحدود في دعوى الفرية، فإن أتى على دعواه بسبب فقيل إنه يضرب وهو معنى قوله في هذه الرواية، وقيل إنه يحلف فإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف، قاله ابن القاسم في سماع أصبغ بعد هذا، قال أصبغ فإن طال سجنه وأبى أن يحلف أدب وخلي إلا أن يكون مبرزا في ذلك فيخلد في حبسه، وأما إن أتى على دعواه بشاهدي عدل فقيل إنه يحلف مع شاهده ويقتص، وقيل لا يحلف مع شاهده ويحلف المدعى عليه فإن أبى أن يحلف سجن حتى يحلف، والقولان في المدونة، وفرق ابن الماجشون وسحنون في هذا بين الجرح الصغير والكبير، فقالا: إنه لا يقتص باليمين مع شاهده في الجرح الصغير دون الكبير، وقد مضى التكلم على هذا المعنى في رسم القضاء من سماع أشهب من كتاب الشهادات.